أبو بكر يصلى بالناس
أعلن بلال بصوته الرخيم غياب شمس الخميس، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلى مع المسلمين آخر صلاة له معهم، فقرأ فيها بـ (والمرسلات عرفا)، وعند العشاء اشتد به المرض، وسأل عائشة: أصلى الناس؟، فقالت: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك، فأمرهم أن يضعوا له الماء ليغتسل، ففعلوا، واغتسل -صلى الله عليه وسلم- لكنه ما إن أراد القيام حتى أغمى عليه، ثم أفاق واغتسل لكنه أغمى عليه مرة أخرى، وأعاد ذلك ثالثًا فأغمى عليه أيضًا، فلما أفاق -صلى الله عليه وسلم- أرسل إلى -أبى بكر أن يصلى بالناس، فصلى بهم -رضى الله عنه- تلك الأيام سبع عشرة صلاة فى حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وقبل يوم أو يومين من وفاته، وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلى بالناس، فجلس إلى يساره، فكان أبو بكر يقتدى بصلاة النبى -صلى الله عليه وسلم- ويسمع الناس التكبير. ولم تكن مصادفة أن يأمر -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بالصلاة، لكنه مع رغبته فى ترك أمر المسلمين لأنفسهم، ليكون شورى بينهم، أراد أن يشير إليهم من طرف خفى إلى من يراه ملائمًا لخلافته؛ ولذا فإن -عائشة حين راجعته ثلاث أو أربع مرات، ليصرف عن أبى بكر الإمامة، حتى لا يتشاءم الناس منه، أبى وقال لها: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس.
التخلص من آخر المتاع
بقى من الزمن يوم واحد، ويغادر محمد -صلى الله عليه وسلم- دنيا الناس إلى جنات ربه، وأدارالرسول -صلى الله عليه وسلم- بصره فى حجرته البسيطة، فوقعت عيناه على متاعه من الدنيا، ممتلكات نبى آخر الزمان، من بلغت حدود دولته بلاد الفرس والروم، ودانت له جزيرة العرب بأطرافها، فماذا وجد؟، غلمانًا كان أحن عليهم من والد، وسبعة دنانير، وعدة حربه من السلاح، فأعتق الغلمان، وتصدق بالدنانير، ووهب سلاحه للمسلمين. وفى الليل استعارت -عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعًا من الشعير.
اليوم الأخير
بينا المسلمون صفوف خلف أبى بكر، يصلون فجر الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، إذ بستر حجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع، وإذ بوجهه المنير ينظر إليهم متبسمًا، وفرح المسلمون بما رأوا، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر على حجرته، ولم يدروا حينئذ أنها المرة الأخيرة، التى يرون فيها وجهه الكريم -صلى الله عليه وسلم-. فحين ارتفع الضحى، دعا محمد -صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته، ثم سارّها بشىء فبكت، فدعاها وسارّها بشىء آخر فضحكت!، أما ما بكت لأجله، فكان إخباره إياها أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه، وأما ما ضحكت منه، فكان بشارته لها أنها أول من يتبعه من أهله، وغشيه -صلى الله عليه وسلم- كرب شديد مما يجد، فقالت فاطمة متأوهة: واكرب أباه، فأجابها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، ودعا (الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ثم دعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وأخذ الوجع يشتد ويزيد عليه فقال لعائشة ما أزال أجد ألم -الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم، وكانت آخر وصاياه، التى أخذ يرددها مرارًا الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم.
الاحتضار
حين اشتد الضحى من يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كان عبدالرحمن بن أبى بكر، يدلف إلى حجرة -عائشة وفى يده سواك له، فنظر إلى سواكه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذى كانت رأسه الشريفة مستندة إلى صدر عائشة، وعرفت أنه يريده فأخذته ولينته واستاك به -صلى الله عليه وسلم-، ثم صار يضع يده فى إناء به ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، ثم شخص بصره نحو السقف، ورفع إصبعه، وتمتم قائلاً: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، ثم مالت يده، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل.
حزن الصحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتعتصر قلوبهم ألمًا، مات الحبيب، الذى عرفوا الحق على يديه، ألفوا سماع حديثه، ورؤياه ماشيًا تارة ومتبسمًا أخرى، ومفكرًا أو مجاهدًا مرات سواها، تعودوا رؤية سيد الخلق، مثال السمو البشرى، من وسع صدره همومهم، وقلبه حبهم، من ملأ دنياهم، وأنار آخرتهم، حين ترك فيهم ما لا يضلوا بعده أبدًا كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-، حزن الصحابة حزنًا، أظلم على المدينة دروبها التى شهدت مسيره، ولعلها الآن حين تحتضن جثمانه فى صعيدها الطيب الطاهر، تجد العزاء. أما صحابته -صلى الله عليه وسلم- فإن عزاءهم وعزاء أتباعه -صلى الله عليه وسلم- فى متابعة طريق شقه فى الدنيا، جزاء السائر فيه، لقيا حبيبه فى الجنة.
يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. خرجت هذه الكلمات الحارة من صدر -فاطمة بنت محمد، لتتسلل إلى أسماع صحابة